وأنا أحزم حقائبي كانت مشاعري لا توصف.. فهي بين المصدق أن هجرتي القسرية انتهت، وبين غير المصدق بأن لي غدا موعد مع بلدي الحبيب. أم أيمن قطعت حبل أفكاري المتدافعة قائلة: "أبا أيمن، أنا سأواصل التحضير ... ولا بد من وزن الحقائب... فتركت الأمر لها وفتحت صفحة الفايسبوك للمرة الأخيرة من كندا قبل الرجوع إلى الوطن، فقرأت العديد من الردود على آخر قصيدة كتبتها "غدا سأعود".. ولعل أكثر تلك الردود تأثيرا على نفسي ما كتبته لي السيدة سونيا قويدار، التي أشكرها من كل قلبي، وآخر ما أهدته لي :" إرجعي يا طيور لأوكارك، رحل الشتاء وجاءك الربيع، نبت الورد فوق القبور فرحا برجوع البعيد، ما تخافي ولا تجفلي، رحلت الصيادة من الربوع، بقي الشداد يحرسون أغصان الورود، لحين ما ترجعي تكون قد أينعت ونورت، يا تونس يا عاشقة زغردي هذا بأريج عرسك صار له دوي شم..."
كما أن أحد أصدقائي على الفيسبوك وهو علي بن صالح، كتب لي ما يلي "سلام عليكم.....إني من متتبعي منشوراتك الشيقة والرائعة كنت أتابع في صمت لكن هده المرة لم أقدر عن الصمت مثلما كان الأمر سابقا، والله قرأت كتابتك وقلبي يرتجف وعينايا تدمعان من كثرة التأثر بهذه الكلمات الرائعة والمؤثرة فعلا لإنسان حرم قهرا من وطنه ...
ثم أن الشاعرة التونسية الرائعة فوزية علوي ردت على قصيدتي بقولها "بسيطة اللغة وسلسلة الروح .جاءت تعبيرا عن نفس برّح بها الشوق والحنين وأترعها الصدق فحلت في القلب بلا تعقيد" ...
وعلى وقع هذه الردود والانفعالات والأحاسيس رنّ جرس الهاتف، فكان في الطرف الآخر مديرة المغرب العربي والشرق الأوسط في وزارة الخارجية الكندية تستفسر عن سفري لتونس وتطمئنني بأن السلطات الكندية ستتابع رجوعي لتونس... ثم اتصلت على الجوال الصحفية آن مري أفون، من إذاعة كندا، تريد أن تؤكد على أنه لدى رجوعي من تونس، سوف نتابع الحوار الذي باشرناه حول تونس بعد الثورة... يا إلهي ... جرس الباب يرن، وهذا فوزي، صديق العمر، ينبهني بأن وقت المطار حان وعلينا بالانطلاق..
ركبت الطائرة ومرت الساعات والساعات .. تونس تنادي .... حطّت الطائرة بمطار تونس قرطاج يوم الجمعة 17 حزيران 2011 على الساعة الحادية عشرة وعشر دقائق، فغمرني شعور لا يوصف، حبّ جارف لوطني ولكل الذين ينتظرونني في الخارج، وأفكار من الماضي، وذكريات مع البوليس السياسي، وأموات فقدتهم ولن أجدهم في انتظاري ووو.... فوجئت بنور ابنتي تقول لي "يا الله يا بابا .. انزل"،
نزلت وأول ما وطأت قدماي أرض الوطن سجدت شاكرا لربي ولوطني الذي ثار فعادت الطيور المهاجرة ... حمدا لك يا رب ... حمدا لك يا رب وشكرا لشعبي الذي ألهم شعوب العالم وفسح لها طريق الخلاص من حكام جثموا على قلوبهم لعقود وعقود.. ولأول مرة أدخل المطار مطمئنا غير خائف وأقول في نفسي أن نضال ثلاثين سنة توّجت، والحمد لله، برجوع معزّز مكرّم، ليس فيه تعهدات ولا التزامات، فأي خير هذا وأي عزّ هذا!! والله إنها لمنّة ومكرمة من ربّ العالمين ..
وصلت أمام كشك شرطة الحدود وسلّمت الجوازات التونسية لي ولابنتي، واحتفظت بالكندية، أما زوجتي لم تجدد جوازها المصري فقدمت جوازها الكندي، ووضعت عيني على الشرطي أراقبه عن كثب : لقد نظر فنقر فعبس فنقر ثم سأل : "واحد وعشرون سنة لم ترجع؟؟؟" نعم ... أجبت : "كنت أنتظر"... رد قائلا: أنتظر .جاء من هو أعلى رتبة، تمتم ونظر ثم اتجه نحوي قائلا: "سنعمل على حل مشكلك لديك برقيتي تفتيش"...سيدي هذه البرقيات لا تهمني بل دُبرت وحِيكت لي من أجل إيقافي، إنها لا تخصني، والسيد وكيل الجمهورية على علم بذالك... رددت قائلا: " تفضل رئيس القسم سيجد لك حلا ".
قابلني المسئول الكبير باحترام جمّ، وتعامل معي بشكل متحضّر قائلا بعاميتنا التونسية: "مرحبا بيك في بلادك نتشرفوا بيك تفضل تفضل..." سبحان مغير الأحوال ماذا جرى في البلاد التي طغى فيها بعض العباد فأكثروا فيها الفساد !! تذكرت يوم 24 أفريل سنة 1990 ـ وهو تاريخ إيقافي ـ بهذا المطار نفسه، وقد أقدموا على تجريدي من كل ملابسي وتفتيش أمتعتي والتحقيق معي ومع زوجتي ومنعي من السفر وسحب جواز سفري وإيقافي لعدة أيام بوزارة الداخلية، وكانت الأسئلة يومها حول ما إذا كنت أصلي، وعن علاقتي بالشيخ راشد الغنوشي، وسبب تواجدي بمؤتمر الحوار القومي الديني في القاهرة سنة 1989، وهل أنا من قام بإخراج أفلام ضد النظام باسم مستعار هو "محمد أمين"، وووو... إلا أن هذا الفيلم الراجع إلى الوراء لسنين طويلة أوقفته فجأة كلمات المسئول المطمئنة: "تفضل... اجلس سنجد لك حلا، وسترى من ينتظرونك في الخارج "... "شكرا"! كان ذلك ردي...
وما هي سوى بضعة ثواني وكان وكيل الجمهورية على الخط في تلك الأثناء، رجعت لهواجسي: كيف سيكون حضن أمي ذات الخمسة والثمانين عاما؟ وهل سأجدها صابرة مثلما أعرفها؟ وكم من أم لم تر ابنها أو بنتها وماتت بعد فراق دام لعقود ولم يحض أبنائها بالحضن الذي ينتظرني؟؟ كيف سأجد أختي "ف" التي لم أرها منذ 21 سنة؟؟ وأنجبت بنتا لها نفس العمر ولم أرها؟ وابنة أخي "ح" التي لم أعرفها قط، وأخي الأكبر "م" الذي لم أره منذ ما يقارب عن 22 سنة كيف سأجده قد تقدم في السن؟؟
أنا كذالك تقدمت في السن ..."سي المنصف !" ـ قاطعني المسؤول ـ قائلا : " يا أخي لم تجد إلا يوم الجمعة تعود فيه لتونس؟" لم أختر يوم 17 جوان لآتي بل القضاء والقدر و ولدت يوم 17 عشر و تزوجت يوم 17 عشر و ولدت ابنتي نرمين ذات اليوم و هذا الرقم عجيب في حياتي و قلت في نفسي حتي الثور ة بدأت يوم 17 ديسمبر .. فقاطعني قائلا :" السيد وكيل الجمهورية له علم بملفك ولكن لا يستطيع فعل شيء واتصلت بالسيد رئيس محكمة الاستئناف وهو غير موجود!!! سأعاود الاتصال به بعد عشر دقائق"
ساورني الشك لبعض دقائق (هل سأبقى هنا ليوم الاثنين؟) لا ... لا يمكن .... فالأمور قد تغيرت ... إنها الثورة !. بعد ربع ساعة عاود الاتصال "ألو ... سيدي الرئيس، لدينا برقيتين رقم كذا ورقم كذا ...نعم ...نعم سيدي الرئيس... نعم بارك الله فيك شكرا..." وألتفت إلي قائلا :" سنتركك تخرج لكن عليك أن تتعهد بإخراج شهادات كفّ التفتيش في البرقيتين"....أجبت نعم أوعدك ... و أنطلقت مسرعا للقاء الأحبة...
منصف بربوش
مونتريال في 23 أوت2011